إبحث عن كتاب أو مُؤلف :

المقالات

مراجعة كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد عبدالرحمن الكواكبي

توصل بجديد الكتب على بريدك الإلكتروني بالإشتراك معنا

اضف إيميلك وتوصل بكل كتاب ننشره

إنضموا إلينا عبر  Telegram :

rtgghdgfhdfgerr 1  

أو مجموعتنا على الفيسبوك :

rtgghdgfhdfgerr 2  

أو على اليوتيوب :

rtgghdgfhdfgerr 1

كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد عبدالرحمن الكواكبي

dfd

من أهم كتب عبد الرحمن الكواكبي في موضوع الاستبداد؛ مستعرضًا طبائعه وما ينطوي عليه من سلبيات تؤدي إلى خوف المسْتَبِدّ وإلى استيلاء الجُبْن على رعيّته، إلى جانب انعكاسات الاستبداد على جميع نواحي الحياة الإنسانية، بما فيها الدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والترقّي والتربية والعُمْران. ومن خلال التساؤلات يشرح ما الاستبداد؟ وما صفات المسْتَبِدّ؟ ومن هم أعوان المسْتَبِدّ؟ وما علاقة الاستبداد بالدين والمال والعلم والأخلاق؟ وهل يمكن أن يتحمل الإنسان ذلك الاستبداد؟ وبالتالي كيف يكون الخلاص منه؟ وما هو البديل عنه؟

  • اسم المؤلف: عبد الرحمن الكواكبي.
  • تاريخ النشر: نشر لأول مرة في عام 1902م، ولكن صدر فيما بعد نسخ كثيرة بطبعات أحدث.
  • عدد الصفحات: 157 صفحة.

عبد الرحمن الكواكبي ابن أحمد المولود في 1 يناير عام 1854م في مدينة حلب بالجمهورية العربية السورية، والمتوفى في 14 يونيو عام 1902م بعد عودته من جولته الآسيوية، نشأ يتيم الأم وتربى مع خالته بعد أن بعث به أبوه إليها لتربيه في أنطاكيا، فتعلم على يديها وتعلم اللغة التركية، ومن ثم رجع لحلب واستكمل دراسته في المدرسة الكواكبية وكان في هذا الوقت أبوه مديراً لها، تعلم الدين ودرس اللغة العربية، وأتقن اللغة الفارسية والتركية.
أنشأ جريدة واسماها “الشهباء”، وكانت هي الجريدة الخاصة العربية الأولى في مدينة حلب، ولكن تم إغلاقها بأمر من الوالي كامل باشا، بعدما كان قد صدر منها فقط 15 عدد، وبعد ذلك أنشأ جريدة أخرى أسماها جريدة الإعتدال ولكن أيضاً تم إغلاقها بأمر من الوالي شريف باشا.

أبرز المناصب التي شغلها: عضو فخري في لجنة المعارف ولجنة المالية، مدير فخري لمطبعة الولاية الرسمية، رئيس فخري للجنة الأشغال العامة ثم عضو في محكمة التجارة في ولاية حلب.
سكن فترة كبيرة من حياته في القاهرة بمصر، واشتهر بها على إثر تأليفه لكتاب أم القرى، أرسله الخديوي عباس في جولة شملت عدة مناطق منها الهند وشبه الجزيرة العربية وشرق آسيا وسواحل أفريقيا واستمرت جولته ستة أشهر وبعد أن عاد بثلاث أشهر مات، ويزعم البعض أنه مات بالسم.

لم يصدر له كتب سوى كتابين أم القرى وطبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.

مراجعة كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد عبدالرحمن الكواكبي

في البداية يعرف علم الاستبدادَ لغةً بأنه: “غرور المرء برأيه. والأنفة عن قبول النصيحة, أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة.” وفي الاصطلاح عند السياسيين هو: “تصَّرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف وتبعة.” وتعريفه بالوصف فإنه: “الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً, التي تتصرف في شؤون الرّعية كما تشاء لا خشية  حساب ولا عقاب محقّقين.”

ويصنف الكواكبي أشد مراتب الاستبداد هي حكومة الفرد المطلق, والوارث للعرش, القائد للجيش, الحائز على سلطة دينية. وكلما قل وصفٌ من هذه الأوصاف, خف الاستبداد. وكذلك يخفُّ الاستبداد -طبعاً- كلّما قلًّ عدد نفوس الرًّعية, وقلَّ الارتباط بالأملاك الثّابتة, وقلَّ التّفاوت في الثّروة وكّلما ترقى الشّعب في المعارف. وإن الحكومة من أيّ نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد, ما لم تكن تحت المراقبة الشّديدة والاحتساب.

ومن أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم, واستبداد النفس على العقل, ويسمى هذا استبداد المرء على نفسه.

ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقِّق لوجد كلَّ فرد من أُُسراء الاستبداد مُستبداً في نفسه, لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلّهم حتّى ربّه الذي خلقهُ تابعين لرأيه وأمره.

غلاف كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد عبدالرحمن الكواكبي

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد عبدالرحمن الكواكبي

الاستبداد والدين:

تضافرت آراء العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان, على أنَّ الاستبداد السياسي متولّد من الاستبداد الدِّيني, والبعض يقول: إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان, أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان, والمشاكلة بينهما أنّهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب.

ويقول المحرِّرون: أن هذا التَّشاكل بين القوّتين ينجزُّ بعوام البشر –وهم السواد الأعظم- إلى نقطة أن يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحقّ وبين المستبدّ المُطاع بالقهر, فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التَّشابه في استحقاق مزيد التَّعظيم, والرَّفعة عن السّؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال, بناءً عليه, لا يرون لأنفسهم حقاً في مراقبة المستبدّ لانتفاء النّسبة بين عظمته ودناءتهم. وبعبارة أخرى: يجد العوام معبودهم وجبَّارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصِّفات, وهم ليس من شأنهم أن يُفرِّقوا مثلاً بين (الفعَّال المطلق), والحاكم بأمره, وبين (لا يُسأل عما يفعل) وغير مسؤول, وبين (المنعم) وولي النعم, وبين (جل شأنه) وجليل الشأن. حتى يصح أن يُقال فيهم: لولا رجاؤهم بالله, وخوفهم منه فيما يتعلَّق بحياتهم الدّنيا, لما صلّوا ولا صاموا.

وأقلُّ ما يعينون به علماء الدين الاستبداد, تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً. وتحريف الكلم عن مواضعه, فليس بالأمر الغريب ضياع معنى (وأُولي الأمر) على كثير من الأفهام, وقد أغفلوا معنى قيد (منكم), أي المؤمنين, منعاً لتطرُّق أفكار المسلمين إلى التفكير بأنّ الظالمين لا يحكمونهم بما أنزل الله. وقد عدد الفقهاء من لا تُقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم, فذكروا حتّى من يأكل ماشياً في الأسواق, ولكنّ شيطان الاستبداد أنساهم أن يُفسِّقوا الأمراء الظالمين فيّردوا شهاداتهم. ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكّام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا, وأوجبوا الصّبر عليهم إذا ظلموا, وعدّوا كلّ معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟!

وإنّما نبني نتيجتنا على مقدِّمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مُستبدِّيهم بالدِّين. وإني أُمثِّل للمطالعين ما فعله الاستبداد في الإسلام, بما حجر على العلماء الحكماء من أن يفسِّروا الآلاء والأخلاق تفسيراً مدقِّقَاً, لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغُفَّل السالفين أو بعض المنافقين المعاصرين, فيُكفَّرون فيُقتلون.

والحاصل أن كل المدقِّقين السّياسيين يرون أنَّ السّياسة والدّين يمشيان متكاتفين, ويعتبرون أنَّ إصلاح الدّين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السّياسي.

الاستبداد والعلم:

فكما أنّه ليس من صالح الوصيّ أن يبلغ الأيتام رشدهم, كذلك ليس من غرض المستبدّ أن تتنوّر الرعية بالعلم.

المستبدًّ لا يخشى علوم اللغة, تلك العلوم التي بعضها يقوّم اللسان ولم يكن وراءه حكمة حماس تعقد الألوية, أو سحر بيان يحل عقد الجيوش. وكذلك لا يخاف المستبدُّ من العلوم الدينية المتعلِّقة بالمعاد, المختصة ما بين الإنسان وربه, لاعتقاده أنّها لا ترفع غباوةً ولا تزيل غشاوة. وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضاً, لأنّ أهلها يكونون مسالمين صغار النّفوس, صغار الهمم, يشتريها المستبدًّ بقليل من المال والإعزاز, ولا يخاف الماديين, لأنّ أكثرهم مبتلون بإيثار النّفس, ولا من الرياضيين, لأنّ غالبهم قصار النظر.

ترتعد فرائض المستبدُّ من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية, والفلسفة العقلية, وحقوق الأمم وطبائع الإجتماع, والسياسة المدنية, والتاريخ المفصّل, والخطابة الأدبية, ونحو ذلك من العلوم التي تُكبر النفوس, وتوسّع العقول, وتُعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها, وكيف الطلب, وكيف النّوال, وكيف الحفظ.

وكما يبغض المستبدّ العلمَ ونتائجه, يبغضه أيضاً لذاته, لأن للعلم سلطاناّ أقوى من كلِّ سلطان, فلابدًّ للمستبدِّ من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماً. ولذلك لا يحبُّ المستبدّ أن يرى وجه عالمٍ عاقل يفوق عليه فكراً, فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملِّق.

يسعى العلماء في تنوير العقول, ويجتهد المستبدّ في إطفاء نورها, والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا, وإذا خافوا استسلموا. كما أنّهم هم الذين متى علموا قالوا, ومتى قالوا فعلوا.

إنَّ خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه, لأنَّ خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقُّه منهم, وخوفهم ناشئ عن جهل, وخوفه عن عجز حقيقي فيه, وخوفهم عن توهمّ التخاذل فقط, وخوفه عن فقد حياته وسلطانه, وخوفهم على لقيمات من النّبات وعلى وطنٍ يألفون غيره في أيام, وخوفه على كلِّ شيء تحت سماء ملكه, وخوفهم على حياةٍ تعيسة فقط. وإنه يخاف من حاشيته, لأنًّ أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم, لأن هؤلاء أشقى خلق الله حياةً, يرتكبون كلَّ جريمة وفضيعة لحساب المستبدّ.

والخلاصة: أنًّ الاستبداد والعلم ضدان متغالبان, فكلُّ إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم, وحصر الرعية  في حالك الجهل.

الاستبداد والمجد:

سأل نيرون الظالم أغربين الشاعر وهو تحت النَّطع: من أشقى الناس؟ فأجابه معرضاً به: من إذا ذكر الناس الاستبداد كان مثالاً له في الخيال.

يُغالب الاستبداد المجد فيفسده, ويقيم مقامة التمجُّد.

المجد: هو احراز المرء مقام حبٍّ واحترام في القلوب, وهو مطلب طبيعي شريف لكلِّ إنسان, لا يترفَّع عنه نبيٌّ أو زاهد. والمجد لا يُنال إلا بنوع من البذل في سبيل الجماعة, وبتعبير الشرقيين في سبيل الله أو سبيل الدّين, وبتعبير الغربيين في سبيل المدنية أو الإنسانية. وهذا البذل إما بذل مال للنفع العام ويسمى مجد الكرم, وهو أضعف المجد, أو بذل العلم النّافع المفيد للجماعة, ويسمّى مجد الفضيلة, أو بذل النّفس بالتعرُّض للمشاقّ والأخطار في سبيل نصرة الحقِّ وحفظ النٌّظام, ويسمى مجد النّبالة, وهذا أعلى المجد.

أما التمجُّد فهو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبدِّ ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية. إن التمجُّد خاصٌ بالإدارات الاستبدادية, وذلك لأنَّ الحكومة الحرة التي تمثِّل عواطف الأمة تأبى كلَّ الإباء إخلاء التساوي بين الأفراد إلا لفضل حقيقي, فلا ترفع قدر أحد منها إلا رفعاً صورياً أثناء قيامه في خدمتها, أي الخدمة العمومية, وذلك تشويقاً له على التفاني في الخدمة, كما أنَّها لا تميز أحداً منها بوسام أو تشرِّفه بلقبٍ إلا ما كان علمياً أو ذكرى لخدمة مهمة وفَّقه الله إليها. وبمثل هذا يرفع اللهُ الناس بعضهم فوق بعضٍ درجات في القلوب لا في الحقوق.

ولهذا يكون المتجمّدين أعداء للعدل أنصاراً للجور, لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة. والمستبدّ لا يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف القلوب, فيكونون لديه كمصحف في خمارة أو سبحة في يد زنديق, ولهذا يُقال: دولة الاستبداد دولة بُلهٍ وأوغاد.

ويجرًّب أحياناً في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء اغتراراً منه بأنّه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم فيكونوا له أعواناً خبثاء, ثمَّ هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر إلى إبعادهم أو ينكّل بهم. وبيوت الأصالة ثلالثة أنواع: بيوت علم وفضيلة, وبيوت مال وكرم, وبيوت إمارة وظلم. وهذا الأخير مطمع نظر المستبدّ في الاستعانة وموضع ثقته. ويستعمل المستبدّ أيضاً مع الأصلاء الشدّ والرّخاء, والمنع والعطاء, وسياسة إلقاء الفساد وإثارة الشحناء فيما بينهم كي لا يتفقوا عليه.

وأيضاً يغرر بالأمة آخرون من المتكبرين, مخادعون يظهرون مالا يُبطنون, ولا يميلون لغير المتملقين المنافقين من أهل الدين, كما هو شأن صاحبهم المستبدّ الأكبر, ومنها أنَّه قد يوجد فيهم من لا يتنزل لقليل الرشوة أو السرقة, ولكن ليس فيهم العفيف عن الكثير, وكفى بما يتمتعون به من الثروات الطائلة وذلك بأخذهم العطايا الكبيرة, والرواتب الباهظة, التي تعادل أضعاف ما تسمح به الإدارة العادلة لأمثالهم, لأنها إدارة راشدة لا تدفع أجوراً زائدة. ومنها أنهم لا يصرفون منها شيئاً ولو سراً من هذا السحت الكثير في سبيل مقاومة الاستبداد الذي يزعمون أنهم أعداؤه, إنما يصرف بعضهم منه شيئاً في الصدقات الطفيفة وبناء المعابد سمعةً ورياءً, وكأنهم يريدون أن يسرقوا أيضاً قلوب الناس بعد سلب أموالهم أو أنهم يرشون الله.

والخلاصة: أنّ المستبد يّتخذ المتمجّدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين, أو حبّ الوطن, أو توسيع المملكة, أو تحصيل منافع عامة, أو مسؤولية الدولة, أو الدفاع عن الاستقلال. وأنَّ المستبدّ فردٌ عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين.

الاستبداد والمال:

الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: “أنا الشرُّ وأبي الظلم, وأميّ الإساءة, وأخي الغدر, وأختي المسْكَنة, وعمي الضُّرُ, وخالي الذُّلُ, وابني الفقر, وبنتي البطالة, وعشيرتي الجهالة, ووطني الخراب, أما ديني وشرفي فالمال المال المال”.

روى كريسكوا المؤرِّخ الروسي: إنَّ كاترينا شكت كسل رعيّتها, فأرشدها شيطانُها إلى حمل النِّساء على الخلاعة, ففعلت وأحدثت كسوة المراقص, فهبَّ الشبّان للعمل وكسب المال لصرفه على ربّات الجمال, وفي ظرف خمس سنين, تضاعف دخل خزينتها, فاتَّسع لها مجال الإسراف. وهكذا المستبدّون لا تهمهم الأخلاق, إنَّما يهمهم المال.

إنَّ حفظ المال في عهد المستبدّ أصعب من كسبه. ومن طبائع الاستبداد، أنَّ الأغنياء أعداؤه فكراً وأوتاده عملاً، فهم ربائط المستبدِّ، يذلُّهم فيئنّون، ويستدرّهم فيحنّون.

وخلاصة القول: الاستبداد عهدٌ أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء, وأسعدهم بمحياه الجهلاء والفقراء, بل أسعدهم أولئك الذين يتعجّلون الموت فيحسدهم الأحياء.

الاستبداد والأخلاق:

الاستبداد يجعل الإنسان يكفر بنِعَم مولاه؛ لأنه لم يملكها حقّ الملك ليحمده عليها حقّ الحمد، ويجعله حاقداً على قومه؛ لأنهم عونٌ لبلاء الاستبداد عليه، وفاقداً حبّ وطنه؛ لأنَّه غير آمن على الاستقرار فيه، ويودُّ لو انتقل منه. وأسيرُ الاستبداد لا يملك شيئاً ليحرص على حفظه؛ لأنَّه لا يملك مالاً غير معرَّض للسّلب ولا شرفاً غير معرَّض للإهانة. ولا يملك الجاهل منه آمالاً مستقبلة ليتبعها ويشقى كما يشقى العاقل في سبيلها.

الاستبداد يسلب الرّاحة الفكرية، فتمرض العقول. ولا غرابة في تحكُّم الاستبداد على الحقائق في أفكار البسطاء، إنما الغريب إغفاله كثيراً من العقلاء، ومنهم جمهور المؤرِّخين الذين يُسمّون الفاتحين الغالبين بالرِّجال العظام!.

وقد يظنُّ بعض الناس أنَّ للاستبداد حسناتٍ مفقودة في الإدارة الحرّة، فيقولون مثلاً: الاستبداد يليّن الطباع ويلطِّفها، والحقُّ أنَّ ذلك يحصل فيه عن فقد الشهامة لا عن فقد الشراسة. ويقولون: الاستبداد يُعلِّم الصغير الجاهل حسن الطاعة والانقياد للكبير الخبر، والحقُّ أنَّ هذا فيه عن خوف وجبانة لا عن اختيارٍ وإذعان. ويقولون: هو يربّي النفوس على الاعتدال والوقوف عند الحدود، والحقُّ أنْ ليس هناك غير انكماشٍ وتقهقر. ويقولون: الاستبداد يقلل الفسق والفجور، والحقُّ أنَّه عن فقر وعجز، لا عن عفّةٍ أو دين. ويقولون: هو يقلل التعديات والجرائم، والحقُّ أنَّه يمنع ظهورها ويخفيها، فيقلُّ تعديدها لا عدادها.

والشرقي يهتمُّ في شأن ظالمه إلى أن يزول عنه ظلمه، ثمَّ لا يفكر فيمن يخلفه ولا يراقبه، فيقع في الظلم ثانيةً، فيعيد الكرّة ويعود الظلم إلى ما لا نهاية. .أما الغربي إذا أخذ على يد ظالمه فلا يفلته حتى يشلَّها، بل حتى يقطعها ويكوي مقطعها.

وما داموا الشرقيون على حاضر حالهم بعيدين عن المجد والعزم, ينتظرون زوال العناد بالتواكل، أو مجرد التمنّي والدعاء, فليتوقّعوا إذن أن يفقدوا الدين كلياً.

والأمر الغريب، أنَّ كلَّ الأمم المنحطّة من جميع الأديان تحصر بلية انحطاطها السياسي في تهاونها بأمور دينها، ولا ترجو تحسين حالتها الاجتماعية إلا بالتمسُّك بعروة الدين تمسكاً مكيناً، ويريدون بالدين العبادة، ولنِعم الاعتقاد لو كان يفيد شيئاً، لكنه لا يفيد أبداً؛ لأنه قولٌ لا يمكن أن يكون وراءه فعل، وذلك أنَّ الدين بذرٌ جيد لا شبهة فيه، فإذا صدقت مغرساً طيباً نبت ونما، وإن صادف أرضاً قاحلة مات وفات، أو أرضاً مغراقاً هاف الاستبداد بصرها وبصيرتها، وأفسد أخلاقها ودينها، حتى صارت لا تعرف للدين معنى غير العبادة والنسك.

فما أحوج الشرقيين أجمعين من بوذيين ومسلمين ومسيحيين وإسرائيليين وغيرهم، إلى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء المرائين الأغبياء، والرؤساء القساة الجهلاء. فيجددون النّظر في الدّين، نظر من لا يحفل بغير الحقِّ الصريح، نظر من لا يضيع النتائج بتشويش المقدمات، نظر من يقصد إظهار الحقيقة لا إظهار الفصاحة، نظر من يريد وجه ربِّه لا استمالة الناس إليه، وبذلك يعيدون النواقص المعطَّلة في الدين، ويهذِّبونه من الزوائد الباطلة مما يطرأ عادةً على كلِّ دينٍ يتقادم عهده.

وما أجدر بالأمم المنحطّة أن تلتمس دواؤها من طريق إحياء العلم وإحياء الهمة مع الاستعانة بالدين والاستفادة منه بمثل: (إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر), لا أنّ يتَّكلوا على أنَّ الصلاة تمنع الناس عنهما بطبعها.

الاستبداد والتربية:

التربية ملكةٌ تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس.

الاستبداد مُفسِدٌ للدين في أهمِّ قسميه؛ أي الأخلاق، أما العبادات منه فلا يمسّها لأنها تلائمه أكثر. ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجرّدة صارت عادات، فلا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر.

الحكومات المنتظمة هي التي تتولّى ملاحظة تسهيل تربية الأمة، وذلك بأن تسنّ قوانين النكاح، ثم تعتني بوجود القابلات والملقّحين والأطباء، ثمَّ تفتح بيوت الأيتام اللقطاء، ثم تعدُّ المكاتب والمدارس للتعليم من الابتدائي الجبري إلى أعلى المراتب، ثمَّ تسهِّل الاجتماعات، وتمهِّد المسارح، وتحمي المنتديات، وتجمع المكتبات والآثار، وتقيم النُّصب المذكرات، وتضع القوانين المحافظة على الآداب والحقوق، وتسهر على حفظ العادات القومية، وإنماء الإحساسات المللية، وتقوّي الآمال، وتيسِّر الأعمال، وتؤمِّن العاجزين فعلاً عن الكسب من الموت جوعاً، وتدفع سليمي الأجسام إلى الكسب ولو في أقصى الأرض، وتحمي الفضل وتقدِّر الفضيلة. وهكذا تلاحظ كلَّ شؤون المرء؛ ولكن، من بعيد، كي لا تخلّ بحريته واستقلاله الشخصي، فلا تقرب منه إلا إذا جنى جرماً لتعاقبه، أو مات لتواريه.

الأسير المعذَّب المنتسب إلى دين يسلّي نفسه بالسعادة الأخروية، فيعدها بجنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعدَّه له الرحمن، ويبعد عن فكره أنَّ الدنيا عنوان الآخرة، وأنَّ ربما كان خاسراً الصفقتين، بل ذلك هو الكائن غالباً. ولبسطاء الإسلام مسليات أظنُّها خاصّة بهم يعطفون مصائبهم عليها، وهي نحو قولهم: الدنيا سجن المؤمن، المؤمن مصاب، إذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه، هذا شأن آخر الزمان، حسب المرء لقيماتٍ يقمن صلبه. ويتناسون حديث: «إنَّ الله يكره العبد البطّال»، والحديث المفيد معنى «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسةً فليغرسها».

كيف ينشأ الأسير في البيت الفقير، وكيف يتربَّى، نجد أنَّه إذا تحرَّك جنيناً حرَّك شراسة أمِّه فتشتمه، أو زاد آلام حياتها فتضربه, ومتى ولدته إذا تألَّم وبكى سدَّت فمه بثديها, إذا كان قوي البنية طويل العمر وترعرع، يُمنع من رياضة اللعب لضيق البيت، فإذا سأل واستفهم ماذا وما هذا ليتعلّم، يُزجَر ويلكم لضيق خُلُق أبويه، وإن جالسهما ليألف المعاشرة، وينتفي عنه التوجّس يبعدانه كي لا يقف على أسرارهما، فيسترقها منه الجيران الخلطاء, فإذا قويت رجلاه يُدفع به إلى خارج الباب، إلى مدرسة الإلفة على القذارة، وتعلّم صيغ الشتائم والسباب, فإذا بلغ الشباب، ربطه أولياؤه على وتد الزواج كي لا يفرّ من مشاكلتهم في شقاء الحياة، ليجني هو على نسله كما جنى عليه أبواه.

ولا يظننَّ المطالع أنَّ حالة أغنياء الأسراء هي أقلُّ شراً من هذا؛ كلا، بل هم أشقى وأقلّ عافيةً، وأقصر عمراً من هذا، إذا نقصتهم بعض المنغِّصات، تزيد فيهم مشاق التظاهر بالراحة والرفاه والعزّة والمنعة، كالعاهرة البائسة تتضاحك لترضي الزاني.

وقد أجمع علماء الاجتماع والأخلاق والتربية على أنَّ الإقناع خير من الترغيب فضلاً عن الترهيب، وإنَّ التعليم مع الحرية بين المعلِّم والمتعلِّم أفضل من التعليم مع الوقار، وأنَّ التعليم عن رغبة في التكمُّل أرسخ من العلم الحاصل طمعاً في المكافأة، أو غيرة من الأقران. وعلى هذه القاعدة بنوا قولهم: إنَّ المدارس تقلل الجنايات لا السجون.

الاستبداد والتخلُّص منه:

وتقرير شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر، وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين، والميدان الذي قلَّ في البشر من لا يجول فيه على فيل من الفكر، أو على جملٍ من الجهل، أو على فرسٍ من الفراسة، أو على حمارٍ من الحُمْق، حتى جاء الزمن الأخير فجال فيه إنسان الغرب جولة المغوار الممتطي في التدقيق مراكب البخار. فقرر بعض قواعد أساسية في هذا الباب تضافر عليها العقل والتجريب.

وقد طرح المؤلف رحمه الله رؤوس مسائل بعض المباحث التي تتعلَّق بها الحياة السياسية لتدقيق المطالعين وهي عبارة عن 25 مبحثاً كلاً منها مكونة عن اسئلة بلا أجوبة:

1– مبحث ما هي الأمَّة؛ أي الشَّعب. 2– مبحث ما هي الحكومة. 3– مبحث ما هي الحقوق العمومية. 4– مبحث التساوي في الحقوق. 5– مبحث الحقوق الشخصية. 6– مبحث نوعية الحكومة. 7– مبحث ما هي وظائف الحكومة. 8– مبحث حقوق الحاكمية. 9– مبحث طاعة الأمة للحكومة. 10– مبحث توزيع التكليفات. 11– مبحث إعداد المَنَعة. 12– مبحث المراقبة على الحكومة. 13– مبحث حفظ الأمن العام. 14– مبحث حفظ السُّلطة في القانون. 15– مبحث تأمين العدالة القضائية. 16– مبحث حفظ الدين والآداب. 17– مبحث تعيين الأعمال بالقوانين. 18– مبحث كيف توضع القوانين. 19– مبحث ما هو القانون وقوَّته. 20– مبحث توزيع الأعمال والوظائف. 21– مبحث التفريق بين السُّلطات السياسية والدينية والتعليم. 22– مبحث الترقّي في العلوم والمعارف. 23– مبحث التوسُّع في الزراعة والصنائع والتجارة. 24– مبحث السَّعي في العمران. 25– مبحث السَّعي في رفع الاستبداد.

هذه خمسة وعشرون مبحثاً، كلٌّ منها يحتاج إلى تدقيقٍ عميق، وتفصيلٍ طويل، وتطبيق على كلِّ الأحوال والمقتضيات الخصوصية. وقد ذكرتُ هذه المباحث تذكرةً للكُتَّاب ذوي الألباب وتنشيطاً للنُّجباء على الخوض فيها بترتيب، اتِّباعاً لحكمة إتيان البيوت من أبوابها. وإني أقتصر على بعض الكلام فيما يتعلق بالمبحث الأخير منها فقط؛ أعني مبحث السَّعي في رفع الاستبداد، فأقول: (قواعد رفع الاستبداد:)

  • الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة.
  • الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة إنما يُقاوم باللين والتدرُّج.
  • يجب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد.

إنَّ الأمَّة إذا ضُرِبَت عليها الذِّلَّة والمسكنة، تصير تلك الأمَّة سافلة الطِّباع، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة، أو للنظام مزية، وقد تنقم على المستبدِّ نادراً، ولكنْ، طلباً للانتقام من شخصه لا طلباً للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيد شيئاً، إنما تستبدل مرضاً بمرض؛ كمغصٍ بصداع. وربما تُنال الحرية عفواً، فكذلك لا تستفيد منها شيئاً؛ لأنَّها لا تعرف طعمها، فلا تهتمُّ بحفظها، فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى. وأنَّ الحرية التي تنفع الأمَّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأمَّا التي تحصل على أثر ثورةٍ حمقاء فقلّما تفيد شيئاً؛ لأنَّ الثورة – غالباً – تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولاً. وكثيراً ما يحبُّ الأُسراء المستبدَّ الأعظم إذا كان يقهر معهم بالسوية الرؤساء والأشراف.

العوام لا يثور غضبهم على المستبدِّ غالباً إلا عقب أحوال مخصوصة مهيِّجة فورية، منها:

  • عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبدُّ على المظلوم يريد الانتقام لناموسه.
  • عقب حرب يخرج منها المستبدُّ مغلوباً، ولا يتمكَّن من إلصاق عار التغلُّب بخيانة القوّاد.
  • عقب تظاهر المستبدِّ بإهانة الدّين إهانةً مصحوبةً باستهزاء يستلزم حدَّة العوام.
  • عقب تضييق شديد عام مقاضاةً لمالٍ كثير لا يتيسَّر إعطاؤه حتّى على أواسط الناس.
  • في حالة مجاعة أو مصيبة عامّة لا يرى الناس فيها مواساةً ظاهرة من المستبدّ.
  • عقب عمل للمستبدِّ يستفزُّ الغضب الفوري، كتعرُّضه لناموس العرض، أو حرمة الجنائز في الشرق، وتحقيره القانون أو الشرف الموروث في الغرب.
  • عقب حادث تضييق يوجب تظاهر قسم كبير من النساء في الاستجارة والاستنصار.
  • عقب ظهور موالاة شديدة من المستبدِّ لمن تعتبره الأمَّة عدوّاً لشرفها.

والمستبدُّ مهما كان غبياً لا تخفى عليه تلك المزالق، ومهما كان عتياً لا يغفل عن اتِّقائها، كما أنَّ هذه الأمور يعرفها أعوانه ووزراؤه.

ونتيجة البحث، أنَّ الله – جلَّت حكمته – قد جعل الأمم مسؤولة عن أعمال من تُحكِّمه عليها. وهذا حقٌّ. فإذا لم تحسن أمّة سياسة نفسها أذلَّها الله لأمَّة أخرى تحكمها، كما تفعل الشرائع بإقامة القيّم على القاصر أو السفيه، وهذه حكمة. ومتى بلغت أمَّةٌ رشدها، وعرفت للحرية قدرها، استرجعت عزَّها، وهذا عدلٌ. وهكذا لا يظلم ربُّك أحداً، إنما هو الإنسان يظلم نفسه، كما لا يذلُّ الله قط أمة عن قلّة، إنما هو الجهل يسبِّب كلَّ علَّة.

موقع المكتبة.نت

نحن على  "موقع المكتبة.نت – Maktbah.Net " وهو موقع عربي لـ تحميل كتب الكترونية PDF مجانية بصيغة كتب الكترونية في جميع المجالات ، منها الكتب القديمة والجديدة بما في ذلك روايات عربية ، روايات مترجمة ، كتب تنمية بشرية ، كتب الزواج والحياة الزوجية ، كتب الثقافة الجنسية ، روائع من الأدب الكلاسيكي العالمي المترجم إلخ … وخاصة الكتب القديمة والقيمة المهددة بالإندثار والضياع وذلك بغية إحيائها وتمكين الناس من الإستفادة منها في ضل التطور التقني...

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى