إذا كان العقل في جوهره عالمي الهوية و الجذور، إنساني الملامح و الآفاق، فإن العقلانية غير ذلك، إذ هي تتعدد بتعدد الثقافات و الأمم، و من ثم فإن العقلانيات العربية اليوم هي حقيقة وجود يحمل في ذاته تناقضات العصر الذي يحياه. الشيء الذي حمل الفكر العربي منذ نهاية القرن الماضي إلى محاولات عدة لتجاوز واقعه من خلال تجاوز التراث بإعتباره ماضيا متخلفا غير مساير لما يحياه. و ذلك باستلهامه مفاهيم من الفكر الأوروبي ليتمكن من التوفيق و إقامة التوازن بين واقعه و واقع مغاير له، انطلاقا من أنهما لحظتان فكريتان مختلفتان، حيث الفكر الطبيعي و التقني هو نتاج أوروبا الحديثة، و الأفكار الروحية هي تراثه، و من ثم أجريت عملية تكييف و محاولة تبيئة للفكر التقني الأوروبي، لكي يتوافق مع الأفكار الروحانية، كما أجريت عملية مماثلة للأفكار الروحية لكي تقبل التقنية و أصبح بالتالي جوهر المشكلة هي ما الذي نأخذه من الآخر باعتباره “متقدّما” و ما الذي نتمسك به في تراثنا؟. فلاشك من أن الصّدمة التي حدثت بيننا و بين الآخر قد أفضت بالضرورة إلى دخول ثقافة الآخر على مجتمع يحوي ثقافة واحدة (أو لنقل فكرا واحدا) هي الثقافة العربية الإسلامية، (التي تمثل ثقافة الأمة كلها)، هذا الدخول الذي أدى إلى نشوء تضاد بين “ثقافتين” ثقافة أوروبية في مقابل ثقافة عاجزة عن إنتاج فكر. فكان من نتائج تلك (الصدمة) دخول النزعة العقلانية إلى المجتمعات العربية الإسلامية دون مجابهة تضمن استبدال التوازن القديم إلى المجتمع بتوازن جديد أكثر فعالية و إنسانية، إذ في هذا الإطار نعتقد بأن ثنائية الأنا/ الآخر أصبح لها مغزى أعمق مما هو باد يعبر عن انكماش “الذات” “الأنا” و “الهوية” و تقوقعها، و انغلاقها، خوفها من الآخر… و لا يحدث هذا الانكماش في اعتقادنا إلا حينما تكون البنى الثقافية المعبرة عن “الذات” و “الأنا” و “الهوية” عاجزة، أو ميتة.
يحتاج المجتمع العربي في مطلع القرن الجديد إلى عملية تغيير إرادي عقلاني فاعل»
بحيث يشمل ذلك التغيير أساليب التفكير والسلوك والقيم» وإيجاد مكانة للفرد في
المجتمع من أجل بناء نهضة عربية شاملة بمنطق عقلاني جاد .
إن العقلانية لم تكن لتعني منظومة مبادىء فلسفية مجردة؛ ولا إرادة سيطرة على
الطبيعة والإنسان فحسب. إنها حولت العقل عند المفكر السياسي الديني والأخلاقي
والفلسفي إلى نظرة مغايرة لما كان يقال عن الإنسان والدين والدولة في الوطن
العربي.
ومن هنا فإننا نتطلع إلى نظرة جديدة تقاوم التسلط» ليس بمرجب تناغمها
وتناسقها مع مبادىء منطقية؛ وإنما عملاً بمضمون قيمي إنساني يحمي إذا ما تحرر
الإنسان الفرد والمجتمع من الإستبداد الذي تحكم فيهما .
وقد جاء هذا الكتاب *العقلانية ومستقبلها في العالم العربي” للدكتور حسام
الآلوسي مثالاً رائداً في التحليل الفكري والفلسفي للعقل العربي في هذه المرحلة
الحاسمة من تاريخ أمتنا العربية في مواجهة العولة وغطرسة القطب الواحد. حيث
تناول بالتحليل مباحث هذا الكتاب في فلسفة وإشكاليات الفكر العربي وطرق
معالجتهاء فقد جاء في بحثه ” إشكالية العقلانية في الفكر العربي” والتي أخضعها إلى
مسلمات ثلاث» الأولى أنه لا توجد عقلانية مطلقة غير منتمية إلى واقع وغير محددة
بزمن وأحداث وظروف. بل إن *العقلانية” هي دائماً عقلانية معاشة ومكونة تاريخياً
والمسلمة الثانية أن *عقلانيتنا” المكونة تاريخياً والمعاشة إلى اليوم ومهما كانت في
أعلى مستوياتهاء هي عقلانية مختلفة عن الدين في المنهج؛ وربما في جزئيات من
الطروح الدينية» إلا أنها في المضامين والموضوعات تكاد تكون واحدة. وأن هذه
العقلانية لاهوتية مثالية؛ روحية وثوقية مطلقية .
والمسلمة الثالثة. إن العقلانية العربية الإسلامية قد كونت عبر التاريخغ بنية عضوية
متماسكة ذات سمات وخصائص قوية مستمرة الوجود .
واستعرض الآلوسي النشأة التاريخية لتكون العقلانية العربية وإلى اليوم وتورصل
إلى وجوب إشتراطات لها – وهي أن تكون عقلانية تكاملية تعددية . ذات مستويات
مختلفة ورؤى تعددية وفكرية في جو تعايشي حواري تتساوى فيه الفرص ٠
وخلص في هذا المبحث إلى ضرورة الإلتفات إلى حقيقة الصراع الدائر اليوم؛
وهو ليس صراعاً فكرياً دينياً في الأساس» بل هو صراع إقتصادي استعماري .
وتناول الدكتور الآلوسي بالتحليل *الفلسفة في الفكر العربي المعاصر” من خلال
عرض لتاريخ الحركة الفلسفية العربية وتطورهاء بإيراد أهم الإتجاهمات حول أصالتها أو
عدم أصالتهاء وخلص إلى وجود فلسفة عربية»؛ كما أن الساحة الفلسفية العربية تشهد
وجود عدد كبير من المحتكمين إلى العقل والعلم والتجريبية؛ وما شئت من فلسفات
تقوم على العقلانية والسببية والحتمية. وأنه بالإمكان الوصول إلى إبداع فلسفي عربي
حديث؛ لا يقبل الشك والتردد. متى توفرت الظروف الكافية؛ وهذه الفترة قطعت
أشواطاً لا بأس بها للآن .
أما في موضوع البنية والعلاقة فقد خلص إلى أن البنية وليس العنصر البسيط هو
الأساس» وأن البنية أو الكل هو شيء أكبر من مجموع عناصره وأن للكل أولوية على
الجزء» وللبنية أولوية على العنصر» وأنه لا عنصر يستطيع لوحده إحتواء الكل وأن
التحليل والجمع يفقدنا المعرفة بالأشياء؛ وبدلاً من ذلك يجب الإنطلاق مباشرة من
الحقائق المتشابكة المعطاة وغير القابلة لكت للتحلز 2